الكشف عن تجليات الواقع المرير

25th May 2021 by

الكشف عن تجليات الواقع المرير[1]

 الحياة اليومية للفلسطينيين في القدس الشرقية المتنازع عليها

 عادل رويشد[2]

 ألصقت قوات الاحتلال الإسرائيلي في القدس الشرقية خلال يوم الثلاثاء الموافق 21 نوفمبر 2019 أوامر بإغلاق لمدة ستة أشهر عدد من المدارس والمساجد والمراكز الطبية والمؤسسات الإعلامية الفلسيطينة في القدس الشرقية. في غضون ذلك، صَرح وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي آنذاك غلعاد اردان بأن هذه الإجراءات ضرروية للتصدي لهذه المؤسسات التي تُمارس أنشطة من شأنها تشجيع تطلعات الفلسطينيين ضد الخطط السياسية الإسرائيلية، وتُعرض الحقوق السيادية لدولة إسرائيل في المدينة للخطر. وأضاف الوزير الإسرائيلي أن هذه المؤسسات تعمل نيابة عن السلطة الوطنية الفلسطينية في القدس الشرقية مما يُعد انتهاكا واضحا لاتفاقية أوسلو للسلام. علاوة على ذلك، تم استجواب مدراء هذه المؤسسات الفلسطينية من قبل ضباط المخابرات الإسرائيلية وهددوهم بالسجن. من جانبها، احتجت المؤسسات الفلسطينية في المدينة على هذه الأوامر الإسرائيلية واعتبرتها اعتداءاً صارخًا على حقهم في التعليم والعبادة والعلاج الطبي وكذلك على حقهم في حرية التعبير في القدس الشرقية. في الوقت نفسه، أعرب العديد من المراقبين عن أسفهم إزاء غياب إرادة سياسية حقيقية للقيادة الفلسطينية لحماية حق هذه المؤسسات في الوجود والعمل وتقديم خدماتها في المدينة. بالإضافة إلى ذلك، أعربوا عن استيائهم من عدم فعالية وعدم كفاءة هذه القيادة في تقديم الدعم المناسب، وخلصوا إلى أنهم تخلوا عن هذه المؤسسات. وأشار هؤلاء المراقبون إلى أن اتفاقية أوسلو للسلام أسفرت عن تقييد حقوق سكان القدس الفلسطينيين لتلقي الرعاية الاجتماعية والخدمات الصحية (ميمو 2019).

 بين المطرقة والسندان 

 لم تؤثر نتائج عملية أوسلو للسلام سلبًا على كافة جوانب حياتهم فحسب، بل أضعفت أيضًا قدرتهم على الحفاظ على وجودهم في المدينة. في هذا الصدد، أظهر انخفاض أعداد وخدمات مؤسسات المجتمع المدني في القدس الشرقية خسارة عنصر هام كان يغطي بعض الخدمات الصحية والاجتماعية والرفاهية الأساسية نتيجة لإخضاع الفلسطينيين ومؤسساتهم لأجندات سياسية. خلال سعيها لترسيخ دورها السياسي في المدينة، وضعت الحكومات الإسرائيلية والفلسطينية المتنازعة هذه المؤسسات في حالة مزدوجة من الإقصاء. وهكذا، بين مطرقة حالة الإقصاء التي تمارسها للحكومة الإسرائيلية وسندان حالة الإقصاء التي تمارسها أيضاً القيادة الفلسطينية وحرمت المؤسسات الفلسطينية من حقها في العمل وتقديم الخدمات بعد توقيع الاتفاقية. 

 بالاعتماد على المؤلفات الأكاديمية لنظرية حالة الاستثناء، يتبين أنه من أجل ترسيخ السُلطة السياسية والشرعية، تميل الحكومات إلى استبعاد جزء من السكان وإخضاعهم لقوانين الطوارئ والاستثنائية مما يؤدي إلى تعليق العمل بالقوانين العادية وحرمان الناس من حقوقهم السياسية والمدنية التي جعلت حياتهم جوفاء (مابون 2017:  1783-4). حُرم المقدسيون الفلسطينيون من حقهم في إنشاء وإدارة مؤسساتهم في القدس الشرقية، فضلاً عن حرية التعبير والتعليم والعبادة والعلاج الطبي في المدينة.

 تصاعدت وتيرة تأسيس مؤسسات المجتمع المدني في القدس الشرقية طوال السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين ويعزو إلى سياسات التمييز التي تمارسها اسرائيل بشأن تقديم خدمات اجتماعية ورفاهية فعالة للفلسطينيين الذين يقطنون في المدينة مما دفع النشطاء الفلسطينيون إلى إنشاء هذه المؤسسات وتسجيلها على أنها غير سياسية. وقد تبلور الهدف الرئيسي لهذه المؤسسات حول معالجة أوجه القصور وتوفير خدمات الرعاية الأساسية للفلسطينيين في مجالات الصحة والتعليم بالإضافة إلى القضايا الثقافية والإنسانية. بعد استبعاد مدينة القدس الشرقية من اتفاقية أوسلو للسلام خلال 1993 ، التي تم توقيعها بين دولة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ، تنازع كل طرف على إثبات دوره وترسيخ شرعيته السياسية في القدس الشرقية ( كلاين  2008: 64) لذا فإن وجود مؤسسات فلسطينية مقدسية مستقلة في القدس الشرقية يشكل تحدياً لكل من الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية على حد سواء. وبالتالي، برزت الحاجة السياسية لكل من الحكومتين الإسرائيلية والفلسطينية لاحتواء هذه المؤسسات غير الحكومية والسيطرة عليها وتنظيم أنشطتها وخدماتها في المدينة عقب اتفاق أوسلو (سوليفان ، 1996: 98).

 أنماط القوة الإسرائيلية

فيما يتعلق بالحكومة الإسرائيلية، فإن وجود مؤسسات فلسطينية مقدسية في المدينة يتحدى طموحاتها السياسية التي اعتبرت القدس الشرقية جزءًا لا يتجزأ من العاصمة السياسية غير المقسمة والأبدية لدولة إسرائيل. ومن ثم، واصلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة إقصاء هذه المؤسسات عن المدينة بعد أوسلو. تجلى هذا الإقصاء في فرض أنماط مختلفة من السلطة ضد وظائف وخدمات هذه المؤسسات في القدس الشرقية. كانت سياسة التمييز العنصري هي النمط الأول للسلطة الذي استخدمته الحكومات الإسرائيلية ضد هذه المؤسسات بهدف دفع هذه المؤسسات إلى الإغلاق والخروج من المدينة. على عكس المؤسسات الإسرائيلية، واجهت المؤسسات المقدسية الفلسطينية قيودًا صارمة وإجراءات قسرية. ووفقًا لـ "بايس"، فإن هذا التهميش العنصري يرجع إلى حقيقة أن "منظمات المجتمع المدني الفلسطيني ... لم تشكل أبدًا جزءًا من المشروع القومي الصهيوني اليهودي"، مشيرا إلى أن السلطات الإسرائيلية منعت أنشطة بعض هذه المؤسسات، أو امتنعت عن تقديم الدعم للآخرين، أو حددت شكل الموارد المقدمة للمؤسسات الأخرى (بايس 2003: 67). علاوة على ذلك، كثفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من حالة التهميش للمؤسسات الفلسطينية من خلال فرض القوانين الإسرائيلية عليها بخلاف تلك الموجودة في باقي الأراضي الفلسطينية حيث سادت قوانين الاحتلال العسكري (جوبه 2019: 18).

 بالإضافة إلى هذا التمييز، فرضت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إجراءات عقابية لتنظيم خدمات هذه المؤسسات من خلال فرض لوائح تنظيمية جائرة عبر تقديم قانون المؤسسات الذي يمنح صلاحيات واسعة للجهة الإسرائيلية المعنية بتسجيل وترخيص تلك المؤسسات حيث مكنه ليس فقط من التحقيق في ترخيص مؤسسات المجتمع المدني هذه، ولكن أيضًا من إلغاء تسجيلها تمامًا وفقًا لتقديره المطلق (بايس: 2003: 68(. وبالتالي، شرعت جهة التسجيل والترخيص الإسرائيلية في تنظيم المؤسسات من خلال شرط تقديم خدماتها التفصيلية والميزانيات المالية على أساس سنوي. في كثير من الحالات، اتهمت المؤسسات بالفشل في الالتزام باللوائح الإسرائيلية ومعايير المتطلبات وحظر حساباتها المصرفية الإسرائيلية. علاوة على ذلك، ألزمت هذه السلطات العديد من المؤسسات بالكشف عن مصادر التمويل لأنشطتها وخدماتها.

 بحجة جمع الأموال من خلال مصادر سياسية فلسطينية أو معادية، قررت هذه السلطات حظر العديد من هذه المؤسسات ووقف أنشطتها وخدماتها في القدس الشرقية. علاوة على ذلك، أوضح نظمي جوبة أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرضت ضرائب تجارية وعلى ممتلكات مفرطة وغير عادلة على هذه المؤسسات على أمل أن تؤدي إلى إفلاسها. وواصل جوبه التأكيد على أن السلطات الإسرائيلية اتهمت العديد من هذه المؤسسات بممارسة أنشطة سياسية غير مشروعة من شأنها انتهاك الأمن الداخلي لدولة إسرائيل وهيمنتها السياسية) في القدس الشرقية (جوبه 2015:21). بالاقتران مع فرض التمييز العنصري والأنماط التأديبية للسلطة، واجهت العديد من هذه المؤسسات المقدسية الفلسطينية نمطًا بيولوجيًا سياسيًا للسلطة من خلال إصدار وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أوامر بإغلاق بعض هذه المؤسسات بعد توقيع اتفاقية أوسلو.  استنادا إلى حجة سياسية مزعومة بالانتماء للسلطة الفلسطينية أو التنسيق المزعوم لسياسات مناهضة لإسرائيل، أمر وزير الأمن الداخلي بإغلاق العديد من هذه المنظمات دون سابق إنذار كما هدد مدراء هذه المنظمات بسجنهم في محاولة لقمع دور القيادة الفلسطينية المحلية في المدينة (بايس  2003 68).

 شكلت هذه الأوامر تهديداً فعلياً لوجود هذه المنظمات غير الحكومية وخدماتها مما جعلها تفقد الحماية القانونية وتتعرض لتهديد وجودي في القدس الشرقية. والأهم من ذلك، مثلت هذه الأوامر عقابًا جماعيًا ضد المستفيدين من الفلسطينيين حيث حرمتهم من الخدمات الاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية الأساسية مما جعل حياتهم قاسية في المدينة. من المهم الإشارة إلى أن أوامر الإغلاق هذه أدت أيضًا إلى فقدان فرص العمل للفلسطينيين في المدينة مما أثر سلباً على الأوضاع الاقتصادية في المدين

 أنماط القوة الفلسطينية

أدى إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية إلى تنامي قوة سياسية أخرى في القدس الشرقية بعد أوسلو. والأهم من ذلك أن مدينة القدس الشرقية مثلت العاصمة السياسية المستقبلية للدولة الفلسطينية الوليدة وبالتالي فإن انتشار مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية المستقلة في المدينة يهدد النفوذ السياسي للسلطة الوطنية الفلسطينية ويضعف دورها البيروقراطي في المدينة بعد أوسلو. ومن هنا عمدت هذه السلطة إلى تهميش هذه المؤسسات في محاولة لاحتوائها والسيطرة عليها. يذكر جوبة أن مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في القدس الشرقية واجهت مواقف لامبالاة من جانب السلطة الوطنية الفلسطينية وعدم اهتمام بأدوارها وخدماتها. بالإضافة إلى ذلك، يشير إلى أن هذا التهميش يهدف إلى استيعاب العديد من موظفي هذه المؤسسات في مكاتب السلطة الوطنية الفلسطينية، مما يجعل القيادة المحلية مهمشة في القدس الشرقية (جوبه 2017: 20).

 تم تنفيذ سياسة الإقصاء التي تتبعها السلطة الوطنية الفلسطينية ضد مؤسسات المجتمع المدني من خلال عدة أنماط من السلطة. لعب أسلوب التمييز الاقتصادي دورًا فعالاً في تحييد هذه المؤسسات وتهميشها. وبحسب حمدان ، شعرت العديد من هذه المؤسسات أن هناك قرارًا غير معلن على المستوى الرسمي لدوائر السلطة الوطنية بتجاهل هذه المؤسسات وإهمالها، مضيفة أن العديد من إدارات السلطة الوطنية الفلسطينية أعربت عن ترددها في تقديم الدعم المالي والإداري لهذه المؤسسات (حمدان ، 2017: 163-5). حتى عندما قررت السلطة الوطنية الفلسطينية تقديم مبالغ مالية صغيرة لبعض هذه المؤسسات، فقد طُلب منها فتح حسابات في البنوك الفلسطينية مما مهد الطريق لفرض نمط تأديبي للسلطة على هذه المؤسسات. تفرض وزارتي الداخلية والرعاية الاجتماعية تسجيل هذه المؤسسات وفقاً للوائح الداخلية للمؤسسات المدنية الفلسطينية من أجل فتح حساب في أحد البنوك الفلسطيني، فضلاً عن حساباتهم المفصلة وخدماتهم وكذلك مصادر التمويل (سوليفان، 1996:96

 علاوة على ذلك، فإن مُسجل القسم في وزارة الداخلية لديه الحق في تسجيل وكذلك إلغاء ترخيص هذه المؤسسات وفقا لتقديره بموجب القانون. ووفقًا لسوليفان، يتعين على هذه المؤسسات تقديم إجابات لسلسلة من الأسئلة التي تطرحها أجهزة الاستخبارات الفلسطينية التي كانت تميل في النهاية إلى الموافقة على طلبات التسجيل أو إلغائها (سوليفان، 1996: 97). لهذا، تم تهديد هذه المؤسسات بفقدان التسجيل وإغلاق حساباتها المصرفية الفلسطينية في حالة وجود نشاط أو مصادر تمويل مزعومة أو مشبوهة. بالإضافة إلى ذلك، اضطرت هذه المؤسسات إلى فصل الأعضاء الفلسطينيين الذين يحملون جوازات سفر إسرائيلية من مجالس إدارتها حتى يصبحوا مؤهلين لتجديد ترخيصهم في الوزارة (14). 

 خلال مقابلة مع مسئول كبير في دائرة التسجيل بالوزارة، صرح بأن "العديد من هذه المؤسسات تجاهلت دورنا وتفويضنا، وخاطبنا البنك الفلسطيني بوقف حساباتهم" (15). ونتيجة لذلك، شكلت هذه اللوائح التنظيمية عبئا على المؤسسات وأهدرت جهودها وطاقتها في الالتزام باللوائح الحكومية. والأهم من ذلك، اختارت العديد من هذه المؤسسات إيقاف خدماتها في المدينة بينما نقلت مؤسسات أخرى مكاتبها إلى مدن الضفة الغربية خارج القدس الشرقية (حمدان، 2017: 166). وقد أظهر ذلك فرض النمط السياسي الحيوي للسلطة الذي مارسته السلطة الوطنية الفلسطينية على هذه المؤسسات. بعبارة أخرى ، فإن استخدام السلطة الوطنية الفلسطينية لهذه الأنماط من السلطة بشكل جماعي حرم هذه المؤسسات من الحق في العمل في المدينة ، وانتهاك حق الفلسطينيين المقدسيين في الحصول على خدمات الرعاية الصحية والاجتماعية.

 الخاتمة

 نتج التدهور المستمر في الظروف المعيشية للمجتمع الفلسطيني عن توظيف حالة الإقصاء المزدوجة في القدس الشرقية بعد أوسلو. في سعيهما لتعزيز سيطرتهما على المدينة، استخدمت الحكومتان الفلسطينية والإسرائيلية على حد سواء سياسات إقصائية ضد حق منظمات المجتمع المدني الفلسطيني في تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية. والأهم من ذلك، حرمت هذه السياسات المقدسيين الفلسطينيين من حق الحصول على مثل هذه الخدمات، وجعلتهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم. وفقًا لهذا الفهم، أصرت هذه المؤسسات على الحق في الوجود والعمل وتقديم الخدمات للمستفيدين من الفلسطينيين المقدسيين. في تقرير صادر عن شبكة المنظمات الفلسطينية غير الحكومية (PNGO) ، وافقت هذه المؤسسات على التعاون  معًا لتحدي السياسات الإسرائيلية ، واقترحت الكشف عن تأثير هذه السياسات للشركاء والمانحين العالميين والإقليميين. علاوة على ذلك، حثوا السلطة الوطنية الفلسطينية، من بين أمور أخرى، إلى "إعطاء الأولوية للدعم، بما في ذلك المساعدات المالية والدفاع عنهم لمنظمات المجتمع المدني الفلسطينية والمؤسسات في القدس الشرقية المحتلة في التخطيط التنموي وفي إطار البرامج الإنسانية والتنموية"  (شبكة المنظمات الفلسطينية غير الحكومية، 2018: 40-1(. 

[1]  تم نشر هذه الورقة في تقرير لـمشروع تحت عنوان: Urban Spaces and Sectarian Contestation

وسيتم نشر هذا التقرير باللغة العربية قريبأ تحت عنوان: الحيز الحضري والنزاع الطائفي.

 [2] عادل رويشد هو طالب دكتوراه في السياسة والعلاقات الدولية بجامعة لانكستر، المملكة المتحدة. يهتم بحثه بالصراع السياسي الإسرائيلي الفلسطيني مع التركيز بشكل خاص على مدينة القدس الشرقية. يناقش في أطروحته العملية تأثير البرامج السياسية المتنازع عليها على الحياة اليومية للفلسطينيين المقدسيين بعد اتفاق أوسلو للسلام. شغل عادل لمدة عشرين عامًا منصب مسؤول علاقات حكومية ومدير إداري لحرم القدس في جامعة القدس في القدس الشرقية.

.