كلمة الأب.. كلمة الرب
26th Oct 2023 by Noor Alanizi
كلمة الأب.. كلمة الرب
لطالما كتبتُ من خلال قصائدي عن قضايانا اليومية الواقعية كنساء وعني أنا كإمرأة, لقد سخّرتُ ملَكتي الأدبية من أجل ذلك, بكل ما تحمله حياتنا من معطيات ونتائج مؤلمة حيث تنجو بعض النساء وتبقى الأخريات تنتظرن تغيير مصيرهن أو يصبحن في عداد المقتولات باسم الشرف وغيره من الأسباب التافهة التي تُراق من أجلها دمائنا قرباناً للمجتمع وتقاليده.
كُنتُ أدوّن كل ذلك بلغة معاصرة من خلال قصيدة النثر, لإيماني التام بأن الأشكال القديمة للشعر تجتزئ أو تختزل التعبيرات والمشاعر, إضافة إلى أننا نحتاج لتطوير اللغة وتحديث أشكال الشعر بما يتناسب مع عصرنا ولتكون حقيقتنا مكتملة وواضحة.
ولأقتبس من الشاعرة الإيرانية الثائرة (فروغ فرخزاد) قولها في إحدى المقابلات: "أؤمن بأن يكون الشاعر شاعراً لكل لحظات العمر, أن تكون شاعراً يعني أن تكون انساناً. أعرف البعض ممن لا علاقة بين سلوكهم اليومي (المعيشي) بشِعرهم على الإطلاق. أي أنهم شعراء فقط عندما يقولون الشعر. ثم ينتهي الأمر...إنني أشعر بالنفور منهم ولا أؤمن بصدق كلامهم".
ولذلك أؤمن أن الشعر تعبيرٌ عمّا نعيشه في الواقع وبأننا كشعراء يجب أن نحمل قضية ندافع عنها فللشعر قيمته التي لا يشعر بها الكثيرون للأسف! وأنا قضيتي المرأة في قصائدي ونشاطي المدني على وجه الخصوص.
من قصيدتي (مطرقة الرب) التي أعتز بها بعد أن ثار عليها المجتمع العراقي المتحفظ بحملة تحريضية واسعة على مواقع التواصل, هكذا وصفتُ الحجاب:
كُوني رماداً يا قبّعة الظلام
فقد خلعتكِ ثلاثاً..
أنا رجل الدين لنفسي
أنا الوليّة على جسدي
أنا, أنا
أنا من أرسم طريقي
ولستِ أنتِ من تقترحين حُطامي..
أتذكّر هذا اليوم المِربديّ جيّداً في عام (2018) عندما ألقيتُ هذه القصيدة, حينها أوصلني والدي الذي يدعمني في كل مراحل حياتي, لقد كان يحميني ويخاف عليّ منذ طفولتي وعندما كنتُ أخطئ كان يحاورني باحترام كبير ويعلّمني ما يجب أن أتعلمه. لم أشعر بأيّ حدود بيني وبين والدي فهو انسان منفتح وواع ومتعلّم وكان في فترة من حياته كُتُبيّاً يبيع الكتب ويقرأ كثيراً, لقد تعلمتُ منه القراءة والتفكر وتحليل الأفكار قبل تبنّيها وكيف أتقبل المختلفين عني بالدين والتوجهات الفكرية, كان متسامحاً مع الجميع ولديه صداقات حافظ عليها منذ طفولته وأظن أنني أشبهه بتقدير الصداقة وتقديسها.
عندما كنت في مراهقتي ومنذ أول يوم كتبت فيه قصيدة كان أبي ينصت لي ويشجعني ويقترح لي بعض الأفكار للكتابة عنها وسط سخرية أمي ومنع إخوتي.. فيما بعد عندما وصلت إلى الجامعة وقررت الدخول في الوسط الأدبي كان يوصلني سِرّاً إلى مقر اتحاد الأدباء في البصرة ويحضر بعض أمسياتي ويفخر بي, كان يقول للجميع "ابنتي شاعرة". وعلى وجهه تتلألأ ابتسامة.
لم يكُن أبي مثالياً! وكان يهتم لبعض التقاليد متأثراً بالبيئة المتوحّشة التي كنّا نعيش فيها, كان يخاف عليّ من كل شيء وفي ذات الوقت لم أشعر أن خوفه هذا كان قيداً يجب أن أكسره, منحني ثقة عمياء لذلك كنت في كل أمور حياتي صريحةً معه حتى أنني أشعر أنه صديقي وربما الرجل الوحيد الصادق والحنون الذي رأيته في حياتي. أبي رجل نبيل ولم يقلل أبداً من قيمة أية امرأة في حياته, قام برعاية أمه حتى وافتها المنية وهي راضية عنه, دعم أخته الوحيدة, وما زال يرعى أمي المريضة حتى يومنا هذا! اهتمّ بأخواتي ودعمهنّ, أما حفيداته فيحببنه كثيراً. هذا هو أبي يقدّم كل ما يملك ويبقى يقول "إنني مُقصّر"! كان وما زال يحاول أن يجلب لنا الدنيا بين أيدينا.
لقد مررتُ بمراحل صعبة, لا يتسع لها هذا المقال, تمزّق بها قلبي وكنت قريبة جدا من الموت, حاولتُ الإنتحار وكان إصراري واضحاً للعائلة بأنني إما سأعيش الحياة التي أختار أو أن أموت دون أن أرضخ لقوانين المجتمع القامعة للنساء.حتّى توصّل أبي لقناعة أنني من المستحيل أن أعيش في هذا البيت وهذه المدينة التي أحبها.. كنت أريد المحبة والاحترام فقط, لكنّ الصور النمطية عن المرأة تتعشعش في رؤوس إخوتي الذكور! الذين كثيراً ما حاولوا قمعي وترهيبي بل وتهديدي ومحاولة قتلي. بعد كل ذلك أدرك أبي أنه من الصعب عليّ البقاء هناك!
كنت أعمل في الصحافة المحلّية المستقلّة إضافة إلى نشاطي الأدبي والمدني وهذا ما قاومه إخوتي بعد أن اكتشفوا هذه النشاطات. قام أبي بحمايتي بعد أن تعهّد بذلك وسافر بي إلى خارج العراق حيث ما زلتُ هناك. ربما لم أذكر كل التفاصيل لأسباب تتعلق بسلامتي الشخصية, لكن بما أننا نريد التحدث عن هوية النساء العراقيات وأنا واحدة منهن, أستطيع القول أنني نجحت بصنع هويتي الخاصة وإكمال مسيرة دعم النساء.. كل ذلك كان وراءه ملهم وداعم وإنسانٌ بحق وأنا مدينةٌ له بكل حياتي.
إنه أبي المتفرّد الذي أحب, إنه أبي الذي أفخر به, إنّه والدي الوقور.
نور العنزي @N00rAlanizi مواليد البصرة (1993)تخرجت في قسم المعلومات والمكتبات/كلية الآداب/ جامعة البصرة. عضو في منتدى أديبات البصرة / اتحاد الأدباء والكتّاب في البصرة. عملت كمراسلة ومحررة ومدققة في مؤسسة بيت الصحافة في العراق. عملت مراسلة لوكالة أضواء المرأة. عملت محررة في مجلة الفراهيدي. الفائزة بالمرتبة الأولى لورشة معهد غوته الألماني (2017) عن قصيدتها (تمرد) وتم ترجمة قصيدتها الفائزة للّغة الألمانية والفرنسية. عملت في مؤسسة إنجاز المدنية. عملت في منظمات لحقوق المرأة. لها قصائد منشورة في الصحف والمجلات. تم اختيار قصيدتها (يمر عليك الليل) في كتاب الشعر الخاص بشعراء مدينة البصرة تحت عنوان (موجة على باب البصرة) 2019.